فصل: سئل ــ رحمه الله ــ عما يذكر من قولهم‏:‏ اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وسئل عن معنى قول من يقول‏:‏ ‏[‏حب الدنيا رأس كل خطيئة‏]‏ فهل هى من جهة المعاصي؟‏ أو من جهة جمع المال؟‏ ‏.‏

فأجاب ‏:‏

ليس هذا محفوظًا عن النبيصلى الله عليه وسلم؛ ولكن هو معروف عن جندب بن عبد الله البجلى من الصحابة، ويذكر عن المسيح ابن مريم عليه السلام، وأكثر ما يغلو في هذا اللفظ المتفلسفة، ومن حذا حذوهم من الصوفية على أصلهم، في تعلق النفس إلى أمور ليس هذا موضع بسطها ‏.‏

وأما حكم الإسلام في ذلك‏:‏ فالذى يعاقب الرجل عليه الحب الذى يستلزم المعاصي‏:‏ فإنه يستلزم الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن الحرص على المال والرئاسة يوجب هذا، كما في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏(‏إياكم والشُّحَّ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا‏)‏، وعن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم /بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن‏.‏

فحرص الرجل على المال والشرف يوجب فساد الدين، فأما مجرد الحب الذى في القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمره الله به، ويترك ما نهى الله عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى، فإن الله لا يعاقبه على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل، وجمع المال، إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام، لا يعاقب عليه، لكن إخراج فضول المال، والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب، وأجمع للهَمّ، وأنفع في الدنيا والآخرة‏.‏ وقال النبيصلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه ضيعته، وأتته الدنيا وهى راغمة‏)‏‏.‏

/ وسئل ــ رحمه الله ــ عما يذكر من قولهم‏:‏ اتخذوا مع الفقير أيادى فإن لهم دولة وأى دولة‏؟‏‏!‏ وقول عمر بن الخطاب ــ رضى الله عنه‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث مع أبي بكر ــ رضى الله عنه ــ وكنت بينهما كالزنجى، ما معنى ذلك؟‏ وقول بعض الناس لبعض‏:‏ نحن في بركتك، أو من وقت حللت عندنا حلت علينا البركة‏.‏ ونحن في بركة هذا الشيخ المدفون عندنا، هل هو قول مشروع أم لا؟‏ أفتونا مأجورين ‏.‏

فأجاب ‏:‏

الحمد لله، أما الحديثان الأولان فكلاهما كذب، وما قال عمر بن الخطاب ما ذكر عنه قط، ولا روى هذا أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف، وهو كلام باطل؛ فإن من كان دون عمر كان يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ويفهم ما ينفعه الله به، فكيف بعمر؟‏‏!‏ وعمر أفضل الخلق بعد أبي بكر، فكيف يكون كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بمنزلة كلام الزنجى ‏.‏

/ثم الذين يذكرون هذا الحديث من ملاحدة الباطنية؛ يدعون أنهم علموا ذلك السر الذى لم يفهمه عمر‏.‏ وحمله كل قوم على رأيهم الفاسد، والنجادية يدعون أنه قولهم، وأهل الحقيقة الكونية الذين ينفون الأمر والنهى والوعيد يدعون أنه قولهم ‏.‏

وأهل الحلول الخاص أشباه النصارى يدعون أنه قولهم؛ إلى أصناف أخر يطول تعدادها‏.‏

فهل يقول عاقل‏:‏ إن عمر وهو شاهد لم يفهم ما قالا، وإن هؤلاء الجهال الضلال أهل الزندقة والإلحاد والمحال علموا معنى ذلك الخطاب، ولم ينقل أحد لفظه، وإنما وضع مثل هذا الكذب ملاحدة الباطنية، حتى يقول الناس‏:‏ إن ما أظهره الرسل من القرآن والإيمان والشريعة له باطن يخالف ظاهرة؛ وكان أبو بكر يعلم ذلك الباطن دون عمر، ويجعلون هذا ذريعة عند الجهال إلى أن يسلخوهم من دين الإسلام ‏.‏

ونظير هذا ما يروونه أن عمر تزوج امرأة أبي بكر ليعرف حاله في الباطن، فقالت‏:‏ كنت أشم رائحة الكبد المشوية، فهذا أيضًا كذب، وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر، بل تزوجها على بن أبي طالب وكانت قبل أبي بكر عند جعفر، وهى أسماء بن عميس وكانت من/ عقلاء النساء، وعمر كان أعلم بأبي بكر من نسائه وغيرهم ‏.‏

وأما الحديث الآخر وهو قوله‏:‏ ‏(‏اتخذوا مع الفقراء أيادى فإن لهم دولة وأى دولة‏!‏‏)‏ فهذا ــ أيضًا ــ كذب، ما رواه أحد من الناس، والإحسان إلى الفقراء الذين ذكرهم الله في القرآن، قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 271 ــ 273 ‏]‏، وأهل الفيء وهم الفقراء المجاهدون الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏الحشر‏:‏ 8 ‏]‏‏.‏ والمحسن إليهم وإلى غيرهم عليه أن يبتغى بذلك وجه الله، ولا يطلب من مخلوق لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏ ‏[‏ الليل‏:‏ 17 ـ 21 ‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏ الإنسان‏:‏ 8، 9 ‏]‏‏.‏

ومن طلب من الفقراء الدعاء أو الثناء خرج من هذه الآية؛ فإن في الحديث الذى في سنن أبي داود ‏(‏من أسدى إليكم معروفًا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له، حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه‏)‏؛ ولهذا كانت عائشة إذا أرسلت إلى قوم بهدية تقول للمرسول‏:‏ اسمع ما دعوا به لنا؛ حتى ندعو لهم بمثل ما دعوا، ويبقى أجرنا على الله ‏.‏

/وقال بعض السلف‏:‏ إذا أعطيت المسكين، فقال‏:‏ بارك الله عليك‏.‏ فقل‏:‏ بارك الله عليك‏.‏ أراد أنه إذا أثابك بالدعاء فادع له بمثل ذلك الدعاء، حتى لا تكون اعتضت منه شيئًا‏.‏ هذا والعطاء لم يطلب منهم‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما نفعني مال كمال أبي بكر‏)‏ أنفقه يبتغى به وجه الله، كما أخبر الله عنه، لا يطلب الجزاء من مخلوق لا نبي ولا غيره، لا بدعاء ولا شفاعة‏.‏

وقول القائل‏:‏ لهم في الآخرة دولة وأي دولة‏!‏، فهذا كذب، بل الدولة لمن كان مؤمنًا تقيًا فقيرًا كان أو غنيًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ الآيتين ‏[‏ الروم‏:‏ 14، 15 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏ الانفطار‏:‏ 13، 14 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏ ص‏:‏ 28 ‏]‏ ونظير هذا في القرآن كثير‏.‏

ومع هذا فالمؤمنون ـ الأنبياء وسائر الأولياء ـ لا يشفعون لأحد إلا بإذن الله،كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ‏}‏ ‏[‏ البقرة‏:‏ 255 ‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏19‏]‏ فمن أحسن إلى مخلوق يرجو أن ذلك المخلوق يجزيه يوم القيامة كان من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، بل إنما يجزى على الأعمال يومئذ الواحد القهار، /الذى إليه الإياب والحساب، الذى لا يظلم مثقال ذرة، وإن تكن حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا‏.‏ ولا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه ‏.‏

 فصـــل

وأما قول القائل‏:‏ نحن في بركة فلان، أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة‏.‏ فهذا الكلام صحيح باعتبار، باطل باعتبار‏.‏ فأما الصحيح‏:‏ فأن يراد به أنه هدانا وعلمنا وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر، فببركة اتباعه وطاعته حصل لنا من الخير ما حصل، فهذا كلام صحيح‏.‏ كما كان أهل المدينة لما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في بركته لما آمنوا به، وأطاعوه، فببركة ذلك حصل لهم سعادة الدنيا والآخرة، بل كل مؤمن آمن بالرسول وأطاعه حصل له من بركة الرسول بسبب إيمانه وطاعته من خير الدنيا والآخرة مالا يعلمه إلا الله‏.‏

وأيضًا، إذا أريد بذلك أنه ببركة دعائه وصلاحه دفع الله الشر وحصل لنا رزق ونصر فهذا حق،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم، وصلاتهم، وإخلاصهم‏؟‏‏)‏ وقد يدفع العذاب عن الكفار والفجار لئلا يصيب من بينهم من المؤمنين ممن/ لا يستحق العذاب، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏[‏ الفتح‏:‏ 25‏]‏‏.‏

فلولا الضعفاء المؤمنون الذين كانوا بمكة بين ظهرانى الكفار عذب الله الكفار، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لولا ما في البيوت من النساء والذراري لأمرت بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة معنا فأحرق عليهم بيوتهم‏)‏ وكذلك ترك رجم الحامل حتى تضع جنينها، وقد قال المسيح عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ‏}‏ ‏[‏ مريم ‏:‏31 ‏]‏ فبركات أولياء الله الصالحين باعتبار نفعهم للخلق بدعائهم إلى طاعة الله، وبدعائهم للخلق وبما ينزل الله من الرحمة، ويدفع من العذاب بسببهم حق موجود، فمن أراد بالبركة هذا، وكان صادقًا، فقوله حق‏.‏

وأما ‏[‏المعنى الباطل‏]‏ فمثل أن يريد الإشراك بالخلق‏:‏ مثل أن يكون رجل مقبور بمكان فيظن أن الله يتولاهم لأجله، وإن لم يقوموا بطاعة الله ورسوله، فهذا جهل‏.‏ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم مدفون بالمدينة عام الحرة، وقد أصاب أهل المدينة من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان ذلك لأنهم بعد الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالا أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم بإيمانهم وتقواهم، لأن الخلفاء الراشدين كانوا يدعونهم إلى ذلك/ وكان ببركة طاعتهم للخلفاء الراشدين، وبركة عمل الخلفاء معهم ينصرهم الله ويؤيدهم‏.‏ وكذلك الخليل صلى الله عليه وسلم مدفون بالشام، وقد استولى النصارى على تلك البلاد قريبًا من مائة سنة، وكان أهلها في شر‏.‏ فمن ظن أن الميت يدفع عن الحى مع كون الحى عاملا بمعصية الله فهو غالط‏.‏

وكذلك إذا ظن أن بركة الشخص تعود على من أشرك به وخرج عن طاعة الله ورسوله، مثل أن يظن أن بركة السجود لغيره، وتقبيل الأرض عنده، ونحو ذلك يحصل له السعادة، وإن لم يعمل بطاعة الله ورسوله‏.‏ وكذلك إذا اعتقد أن ذلك الشخص يشفع له، ويدخله الجنة بمجرد محبته، وانتسابه إليه، فهذه الأمور ونحوها مما فيه مخالفة الكتاب والسنة، فهو من أحوال المشركين، وأهل البدع، باطل لا يجوز اعتقاده، ولا اعتماده‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

/ وسئل عن رجل ‏[‏متصوف‏]‏ قال لإنسان ــ في كلام جرى بينهم‏:‏ فقراء الأسواق، فقال له الرجل‏:‏ اليهودي والنصراني والمسلم في السوق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 35 ‏]‏، فقال‏:‏ الصوفي‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الفقر إلى الله، والأولياء مفتقرون للخاتمة والأشقياء تحت القضاء‏)‏، قال الصوفي للرجل‏:‏ تعرف الفقر؟‏ فقال له‏:‏ لا، قال الصوفي‏:‏ الفقر هو الله‏.‏ فأنكروا عليه هذا اللفظ‏.‏ ثم في ثانى يوم قال رجل‏:‏ أنت قلت‏:‏ الفقر هو الله، فقال الصوفي‏:‏ أنا قرأت في كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من رآنى آمن بي‏)‏ وأنا رأيت الفقر فآمنت به، والفقر هو الله ‏.‏

فأجاب ‏:‏

الحمد لله، أما الحديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مع كونه كذبًا مناقض للعقل والدين، فإنه ليس كل من رآه آمن به، بل قد رآه كثير مثل الكفار والمنافقين‏.‏ وقول القائل‏:‏ آمنت بالفقر أو كفرت بالفقر هو من الكلام الباطل، بل هو / كفر يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل‏.‏ والله سبحانه هو الغنى، والخلق هم الفقراء إليه ‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏181‏]‏، فإذا كان الذين قالوا‏:‏ إنه فقير قد توعدهم بهذا، فكيف بمن يقول له الفقر؟‏‏!‏ و‏[‏المصدر‏]‏ أبلغ من الصفة وإذا كان منزهًا على أن يوصف بذلك فكيف يجعل المصدر اسمًا له؟‏‏!‏

ولو قال القائل‏:‏ أردت بذلك الفقر هو إرادة الله ولم يكن في السياق ما يقتضى تصديقه لم يقبل ذلك منه، وإن كان في السياق ما يقبل تصديقه، نهى عن العبارة الموهومة وأمر بالعبارة الحسنة ‏.‏

وأما قوله‏:‏ الحديث المذكور وهو قوله‏:‏ ‏(‏الفقر فخرى، وبه أفتخر‏)‏ فهو كذب موضوع لم يروه أحد من أهل المعرفة بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه باطل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتخر بشىء بل قال‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم ولا فخر‏)‏ وقال في الحديث‏:‏ ‏(‏إنه أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد‏)‏ ولو افتخر بشىء لافتخر بما فضله الله به على سائر الخلق ‏.‏

/و‏[‏الفقر‏]‏ وصف مشترك بينه وبين سائر الفقراء، سواء أريد به الشرعى وهو عدم المال، أو الفقر الاصطلاحى وهو مكارم الأخلاق والزهد، مع أن لفظه في كلامه وكلام أصحابه لا يراد به إلا الفقر الشرعى دون الاصطلاحى، والله أعلم ‏.‏

/ وسئل عمن قال‏:‏ إن ‏[‏الفقير، والغنى‏]‏ لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى‏.‏ فمن كان أتقى لله كان أفضل وأحب إلى الله تعالى‏.‏ وإن الحديث الصحيح الذى قال فيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يدخل فقراء أمتى الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام‏)‏ هذا في حق ضعفاء المسلمين، وصعاليكهم القائمين بفرائض الله تعالى، وليس مختصًا بمجرد ما عرف واشتهر في هذه الأعصار المتأخرة، من السجاد والمرقعة والعكاز، والألفاظ المنمقة، بل هذه الهيئات المعتادة في هذه الأزمنة مخترعة مبتدعة، فهل الأمر على ما ذكر أم لا؟‏

فأجاب ـ رضى الله عنه ‏:‏

الحمد لله رب العالمين، قد تنازع كثير من متأخرى المسلمين في ‏[‏الغنى الشاكر، والفقير الصابر‏]‏ أيهما أفضل؟‏ فرجح هذا طائفة من العلماء والعباد، ورجح هذا طائفة من العلماء والعباد، وقد حكى في ذلك عن الإمام أحمد روايتان‏.‏ وأما الصحابة والتابعون فلم ينقل عنهم تفضيل أحد الصنفين/ على الآخر‏.‏ وقال طائفة ثالثة‏:‏ ليس لأحدهما على الآخر فضيلة إلا بالتقوى، فأيهما كان أعظم إيمانًا وتقوى كان أفضل، وإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة، وهذا أصح الأقوال؛ لأن الكتاب والسنة إنما تفضل بالإيمان والتقوى‏.‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا‏}‏ ‏[‏ النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏

وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء، والكاملون يقومون بالمقامين، فيقومون بالشكر والصبر على التمام‏.‏ كحال نبينا صلى الله عليه وسلم، وحال أبي بكر وعمر ــ رضى الله عنهما ــ ولكن قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع من الغنى، والغنى أنفع لآخرين، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، كما في الحديث الذى رواه البغوى وغيره ‏(‏إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى‏.‏ ولو أفقرته لأفسده ذلك‏.‏ وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر‏.‏ ولو أغنيته لأفسده ذلك‏.‏ وإن من عبادى من لا يصلحه إلا السقم‏.‏ ولو أصححته لأفسده ذلك، إنى أدبر عبادي إني بهم خبير بصير‏)‏‏.‏

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم‏)‏ وفي الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلوات سمع بذلك الأغنياء فقالوا مثل /ما قالوا‏.‏ فذكر ذلك الفقراء للنبيصلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏(‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏)‏ فالفقراء متقدمون في دخول الجنة لخفة الحساب عليهم، والأغنياء مؤخرون لأجل الحساب، ثم إذا حوسب أحدهم فإن كانت حسناته أعظم من حسنات الفقير كانت درجته في الجنة فوقه، وإن تأخر في الدخول، كما أن السبعين ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب، ومنهم عكاشة بن محصن، وقد يدخل الجنة بحساب من يكون أفضل من أحدهم‏.‏ وصلى الله وسلم على محمد‏.‏